كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَفِي الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ مِثْلُ ذَلِكَ فَمِنْهَا مَا عَالَ مَنِ اقْتَصَدَ رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ- الِاقْتِصَادُ نِصْفُ الْمَعِيشَةِ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ نِصْفُ الدِّينِ، رَوَاهُ الْخَطِيبُ عَنْ أَنَسٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ: الِاقْتِصَادُ فِي النَّفَقَةِ نِصْفُ الْمَعِيشَةِ وَالتَّوَدُّدُ إِلَى النَّاسِ نِصْفُ الْعَقْلِ، وَحُسْنُ السُّؤَالِ نِصْفُ الْعِلْمِ، وَغَيْرُهُمْ بِأَلْفَاظٍ أُخْرَى: مِنْ فِقْهِ الرَّجُلِ رِفْقُهُ فِي مَعِيشَتِهِ رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ- مَنِ اقْتَصَدَ أَغْنَاهُ اللهُ وَمَنْ بَذَّرَ أَفْقَرَهُ اللهُ إلخ. رَوَاهُ الْبَّزَّارُ، عَنْ أَبِي طَلْحَةَ وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ.
وَمِنَ الْأَحَادِيثِ فِي فَضْلِ الْغَنِيِّ حَدِيثُ سَعْدٍ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ: «إِنَّكَ إِنْ تَذَرْ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ» وَحَدِيثُهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ: «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ الْغَنِيَّ الْحَفِيَّ»، وَحَدِيثُ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى إلخ. وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عِنْدَ أَحْمَدَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ نِعِمَّا الْمَالُ الصَّالِحُ لِلْمَرْءِ الصَّالِحِ وَحَدِيثُ أَنَسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَالْبَيْهَقِيِّ كَادَ الْفَقْرُ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا.
فَإِذَا جَرَى لَنَا نَحْنُ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ هَذِهِ الْوَصَايَا، وَالْحِكَمِ حَتَّى صِرْنَا أَشَدَّ الْأُمَمِ إِسْرَافًا، وَتَبْذِيرًا، وَإِضَاعَةً لِلْأَمْوَالِ، وَجَهْلًا بِطُرُقِ الِاقْتِصَادِ فِيهَا، وَتَثْمِيرِهَا، وَإِقَامَةِ مَصَالِحِ الْأُمَّةِ بِهَا فِي هَذَا الزَّمَنِ الَّذِي لَمْ يَسْبِقْ لَهُ نَظِيرٌ فِي أَزْمِنَةِ التَّارِيخِ مِنْ حَيْثُ تَوَقُّفُ قِيَامِ مَصَالِحِ الْأُمَمِ، وَمَرَافِقِهَا، وَعَظَمَةِ شَأْنِهَا عَلَى الْمَالِ حَتَّى إِنَّ الْأُمَمَ الْجَاهِلَةَ بِطُرُقِ الِاقْتِصَادِ، الَّتِي لَيْسَ فِي أَيْدِيهَا مَالٌ كَثِيرٌ قَدْ صَارَتْ مُسْتَذَلَّةً، وَمُسْتَعْبَدَةً لِلْأُمَمِ الْغَنِيَّةِ بِالْبَرَاعَةِ فِي الْكَسْبِ، وَالْإِحْسَانِ فِي الِاقْتِصَادِ؟
وَمَاذَا جَرَى لِتِلْكَ الْأُمَمِ الَّتِي يَقُولُ لَهَا كِتَابُهَا الدِّينِيُّ كَمَا فِي إِنْجِيلِ مَتَّى (19: 23) إِنَّهُ يَعْسُرُ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ [24] وَأَقُولُ لَكُمْ أَيْضًا إِنَّ مُرُورَ جَمَلٍ مِنْ ثُقْبِ إِبْرَةٍ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ، وَيَقُولَ كَمَا فِي (6: 24) مِنْهُ: لَا تَقْدِرُونَ أَنْ تَخْدِمُوا لِلَّهِ وَالْمَالِ [25] لِذَلِكَ أَقُولُ لَكُمْ لَا تَهْتَمُّوا لِحَيَاتِكُمْ إلخ. وَفِي (10: 9) مِنْهُ: لَا تَقْتَنُوا ذَهَبًا وَلَا فِضَّةً- مَاذَا جَرَى لَهَا فِي دِينِهَا حَتَّى صَارَتْ أَبْرَعَ الْخَلْقِ فِي فُنُونِ الثَّرْوَةِ، وَالِاقْتِصَادِ، وَأَبْعَدَهَا عَنِ الْإِسْرَافِ، وَالتَّبْذِيرِ، وَسَادَتْ بِالْغِنَى وَالثَّرْوَةِ عَلَى جَمِيعِ أُمَمِ الْأَرْضِ؟ أَلَا وَهِيَ أُمَمُ الْإِفْرِنْجَةِ.
وَكَيْفَ جَازَ أَنْ يُسَمَّى مَا نَحْنُ عَلَيْهِ مَدَنِيَّةً إِسْلَامِيَّةً مَعَ مُخَالَفَتِنَا لِلْقُرْآنِ فِي هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي هُوَ قِوَامُ الْمَدَنِيَّةِ، كَمَا خَالَفَهُ جَمَاهِيرُنَا فِي أَكْثَرِ مَا أَرْشَدَ إِلَيْهِ؟ وَكَيْفَ جَازَ أَنْ تُسَمَّى مَدَنِيَّتُهُمْ مَدَنِيَّةً مَسِيحِيَّةً مَعَ بِنَاءِ تَعَالِيمِ الْمَسِيحِ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الزُّهْدِ وَبُغْضِ الْمَالِ، كَمَا هُوَ صَرِيحٌ فِي هَذِهِ الْأَنَاجِيلِ الَّتِي بَيْنَ أَيْدِي الْقَوْمِ يَدَّعُونَ اتِّبَاعَهَا، وَيَدْعُونَ إِلَيْهَا غَيْرَهُمْ، وَهُمْ لَهَا مُخَالِفُونَ، وَعَنْهَا مُعْرِضُونَ!!!
أَمَّا السَّبَبُ فِيمَا نَحْنُ عَلَيْهِ مِنْ سُوءِ الْحَالِ فِي دُنْيَانَا، وَمُخَالَفَةِ نَصِّ كِتَابِنَا فَهُوَ ظَاهِرٌ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْبَاحِثِينَ، وَهُوَ أَنَّنَا أَخَذْنَا بِالتَّقْلِيدِ الَّذِي حَرَّمَهُ اللهُ عَلَيْنَا، وَتَرَكْنَا هِدَايَةَ الْقُرْآنِ، وَنَبَذْنَاهُ وَرَاءَ ظُهُورِنَا، وَأَخَذْنَا فِي الْأَخْلَاقِ، وَالْآدَابِ الَّتِي هِيَ رُوحُ حَيَاةِ الْأُمَمِ بِأَقْوَالِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ مِنَ الْجَاهِلِينَ، الَّذِينَ لَبَسُوا عَلَيْنَا بِلِبَاسِ الصَّالِحِينَ، فَنَفَثُوا فِي الْأُمَّةِ سُمُومَ الْمُبَالَغَةِ فِي التَّزْهِيدِ، وَالْحَثِّ عَلَى إِنْفَاقِ جَمِيعِ مَا تَصِلُ إِلَيْهِ الْيَدُ، وَإِنَّمَا كَانَ يُرِيدُ أَكْثَرُهُمْ إِنْفَاقَ كَسْبِ الْكَاسِبِينَ عَلَيْهِمْ، وَهُمْ كُسَالَى لَا يَكْسِبُونَ، لِزَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ بِحُبِّ اللهِ مَشْغُولُونَ!
وَذَمُّوا لَنَا الدُّنْيَا وَهُمْ يَرْضَعُونَهَا ** أَفَاوِيقَ حَتَّى مَا تُدِرُّ لَهَا ثُعْلُ

حَتَّى صَارَ مِنَ الْمَعْرُوفِ الْمُقَرَّرِ عِنْدَ جَمِيعِ شُعُوبِ الْمُسْلِمِينَ إِدْرَارُ الْمَالِ وَالرِّزْقِ عَلَى عُلَمَاءِ الدِّينِ، وَشُيُوخِ الطَّرِيقِ الصَّالِحِينَ، فَهُمْ يَأْكُلُونَ مَالَ الْأُمَّةِ بِدِينِهِمْ، وَيَرَوْنَ أَنَّ لَهُمُ الْفَضْلَ عَلَيْهَا بِقَبُولِهِ مِنْهَا، وَإِنْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ: الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنَ الْآيَةِ تَحْرِيضٌ عَلَى حِفْظِ الْمَالِ، وَتَعْرِيفٌ بِقِيمَتِهِ، فَلَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُبَذِّرَ أَمْوَالَهُ، وَكَانَ السَّلَفُ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ مُحَافَظَةً عَلَى مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَأَعْرَفِ النَّاسِ بِتَحْصِيلِ الْمَالِ مِنْ وُجُوهِ الْحَلَالِ، فَأَيْنَ مِنْ هَذَا مَا نَسْمَعُهُ مِنْ خُطَبَاءِ مَسَاجِدِنَا مِنْ تَزْهِيدِ النَّاسِ وَغَلِّ أَيْدِيهِمْ، وَإِغْرَائِهِمْ بِالْكَسَلِ وَالْخُمُولِ، حَتَّى صَارَ الْمُسْلِمُ يَعْدِلُ عَنِ الْكَسْبِ الشَّرِيفِ إِلَى الْكَسْبِ الْمَرْذُولِ مِنَ الْغِشِّ، وَالْحِيلَةِ، وَالْخِدَاعِ؛ ذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ مَيَّالٌ بِطَبْعِهِ إِلَى الرَّاحَةِ، فَعِنْدَمَا يَسْمَعُ مِنَ الْخُطَبَاءِ، وَالْعُلَمَاءِ، وَالْمَعْرُوفِينَ بِالصُّلَحَاءِ عِبَارَاتِ التَّزْهِيدِ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهُ يُرْضِي بِهَا مَيْلَهُ إِلَى الرَّاحَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ لابد لَهُ مِنَ الْكَسْبِ فَيَخْتَارُ أَقَلَّهُ سَعْيًا، وَأَخَفَّهُ مُؤْنَةً، وَهُوَ أَخَسُّهُ، وَأَبْعَدُهُ عَنِ الشَّرَفِ، عَلَى أَنَّ هَذَا التَّزْهِيدَ فِي الدُّنْيَا مِنْ هَؤُلَاءِ لَمْ يَأْتِ بِمَا يُسَاقُ لِأَجْلِهِ مِنَ التَّرْغِيبِ فِي الْآخِرَةِ، وَالِاسْتِعْدَادِ لَهَا، بَلْ إِنَّ خُطَبَاءَنَا، وَوُعَّاظَنَا قَدْ زَهَّدُوا النَّاسَ فِي الدُّنْيَا وَقَطَعُوهُنَّ عَنِ الْآخِرَةِ فَخَسِرُوا الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ، وَذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِجَهْلِهِمْ وَعَدَمِ عَمَلِهِمْ بِمَا يَعِظُونَ بِهِ غَيْرَهُمْ، وَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ الْعَارِفِ بِالْإِسْلَامِ أَنْ يُبَيِّنَ لِلنَّاسِ الْجَمْعَ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
قَالَ تَعَالَى: {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} أَمَّا مَنْ فَسَّرُوا السُّفَهَاءَ بِأَوْلَادِ الْمُخَاطَبِينَ، وَنِسَائِهِمْ مَعًا أَوْ بِأَحَدِهِمَا، وَجَعَلُوا إِضَافَةَ أَمْوَالِ الْمُخَاطَبِينَ إِلَيْهِمْ عَلَى حَقِيقَتِهَا، فَقَالُوا فِي مَعْنَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ: إِذَا امْتَنَعَ عَلَيْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ أَنْ تُعْطُوا أَمْوَالَكُمْ وِلْدَانَكُمْ وَنِسَاءَكُمْ خَشْيَةَ أَنْ يُبَذِّرُوهَا، وَيُتْلِفُوهَا، وَهِيَ قِيَامُكُمْ، وَعَلَيْهَا مَدَارُ مَعَاشِكُمْ، فَعَلَيْكُمْ أَنْ تَتَوَلَّوْا أَنْتُمْ إِصْلَاحَهَا، وَتَثْمِيرَهَا، وَالْإِنْفَاقَ عَلَيْهِمْ مِنْهَا فِي طَعَامِهِمْ، وَكِسْوَتِهِمْ، فَهِيَ فِي وُجُوبِ إِنْفَاقِ الرَّجُلِ عَلَى زَوْجِهِ وَأَوْلَادِهِ الْقَاصِرِينَ الَّذِينَ لَا يُحْسِنُونَ الْكَسْبَ، وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَمَنْ قَالُوا إِنَّ الْكَلَامَ فِي السُّفَهَاءِ عَامَّةً، وَفِي حِفْظِ الْأَوْلِيَاءِ لِأَمْوَالِهِمْ قَالُوا: إِنَّ مَعْنَاهَا يَا أَيُّهَا الْأَوْلِيَاءُ الَّذِينَ عُهِدَ إِلَيْكُمْ حِفْظُ أَمْوَالِ السُّفَهَاءِ، وَتَثْمِيرُهَا حَتَّى كَأَنَّهَا- بِهَذَا التَّصَرُّفِ وَبِارْتِبَاطِ مَصَالِحِ أَصْحَابِهَا بِمَصَالِحِكُمْ، وَبِتَكَافُلِ الْأُمَّةِ وَالْعَشِيرَةِ وَوَحْدَتِهَا- أَمْوَالُكُمْ يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُنْفِقُوا عَلَى السُّفَهَاءِ، فَتُقَدِّمُوا لَهُمْ كِفَايَتَهُمْ مِنَ الطَّعَامِ، وَالثِّيَابِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمَنْ قَالُوا: إِنَّ لَفْظَ السُّفَهَاءِ عَامٌّ فِي أَوْلَادِ الْمُخَاطَبِينَ، وَنِسَائِهِمْ، وَالْيَتَامَى وَغَيْرِهِمْ، وَلَفْظَ أَمْوَالِكُمْ عَامٌّ فِيمَا هُوَ لِلْمُخَاطَبِينَ وَهُمْ جَمِيعٌ، وَمَا هُوَ لِلسُّفَهَاءِ، وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ- وَقُلْنَا إِنَّهُ أَحْسَنُ الْأَقْوَالِ- جَعَلُوا مَعْنَاهَا شَامِلًا لِلْمَعْنَيَيْنِ السَّابِقَيْنِ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى مَنْ تَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ نَفَقَتُهُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، وَالْإِنْفَاقِ عَلَى مَنْ يَتَوَلَّى أَمْرَهُ مِنَ السُّفَهَاءِ مِمَّنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ مِنْ مَالِهِ أَيْ مَالِ نَفْسِهِ.
وَإِنَّمَا قَالَ: {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا} وَلَمْ يَقُلْ مِنْهَا لِأَنَّ الْمُرَادَ كَمَا قَالَ فِي الْكَشَّافِ: اجْعَلُوهَا مَكَانًا لِرِزْقِهِمْ بِأَنْ تَتَّجِرُوا فِيهَا وَتَتَرَبَحُوا؛ حَتَّى تَكُونَ نَفَقَتُهُمْ مِنَ الْأَرْبَاحِ لَا مِنْ صُلْبِ الْمَالِ فَلَا يَأْكُلُهَا الْإِنْفَاقُ اهـ. أَيْ إِنَّ مَا يُنْفَقُ مِنْ أَصْلِهِ، وَصُلْبِهِ يَنْقُصُ رُوَيْدًا رُوَيْدًا حَتَّى يَذْهَبَ كُلُّهُ، وَتَبِعَ الْكَشَّافَ فِيمَا قَالَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ، وَالْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الرِّزْقُ يَعُمُّ وُجُوهَ الْإِنْفَاقِ كُلَّهَا كَالْأَكْلِ، وَالْمَبِيتِ، وَالزَّوَاجِ، وَالْكِسْوَةِ، وَإِنَّمَا قَالَ: وَاكْسُوهُمْ فَخَصَّ الْكِسْوَةَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ النَّاسَ يَتَسَاهَلُونَ فِيهَا أَحْيَانًا، وَتَخْصِيصُ (الْجَلَالِ)- أَيْ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ نَقَلَ هُوَ عَنْهُمْ- الرِّزْقَ بِالْإِطْعَامِ لَا يَصِحُّ. اهـ.
وَقَالَ الرَّازِيُّ: إِنَّ الرِّزْقَ مِنَ الْعِبَادِ هُوَ الْإِجْرَاءُ الْمُوَظَّفُ لِوَقْتٍ مَعْلُومٍ، يُقَالُ: فُلَانٌ رَزَقَ عِيَالَهُ أَيْ أَجْرَى عَلَيْهِمْ اهـ. يَعْنِي أَنَّ كُلَّ النَّفَقَاتِ الْمُرَتَّبَةِ فِي أَوْقَاتٍ مُعَيَّنَةٍ تُسَمَّى رِزْقًا، وَهُوَ مَعْنًى اصْطِلَاحِيٌّ أَخَصُّ مِنَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ. وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا وَذَاكَ هُوَ جَعْلُهُمُ الرِّزْقَ هُنَا شَامِلًا لِأَنْوَاعِ النَّفَقَاتِ الْوَاجِبَةِ بِالنَّصِّ حَتَّى لَا يَقُولَ قَائِلٌ: إِنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الطَّعَامُ، وَالْكِسْوَةُ دُونَ الْإِيوَاءِ، وَالتَّرْبِيَةِ، وَالتَّعْلِيمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَقَدْ فَسَّرَ بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} بِتَعْلِيمِهِمْ مَا يَجِبُ عِلْمُهُ وَمَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ، نَقَلَهُ الرَّازِيُّ، عَنِ الزَّجَّاجِ، وَقِيلَ: هُوَ الْوَعْدُ الْجَمِيلُ لِلسَّفِيهِ بِإِعْطَائِهِ مَالَهُ عِنْدَ الرُّشْدِ. وَقِيلَ: بَلْ وَعْدُهُ بِزِيَادَةِ الْإِدْرَارِ عَلَيْهِ وَالتَّوْسِعَةِ عِنْدَ زِيَادَةِ رِبْحِ الْمَالِ وَغَلَبَتِهِ.
وَقِيلَ: هُوَ الدُّعَاءُ. وَفَصَّلَ الْقَفَّالُ فَقَالَ: إِنْ كَانَ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ صَبِيًّا (أَيْ صَغِيرًا وَلَوْ أُنْثَى) فَالْوَلِيُّ يُعَرِّفُهُ أَنَّ الْمَالَ مَالُهُ، وَهُوَ خَازِنٌ لَهُ، وَأَنَّهُ إِذَا زَالَ صِبَاهُ، فَإِنَّهُ يَرُدُّ الْمَالَ عَلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ سَفِيهًا، وَعَظَهُ، وَنَصَحَهُ، وَحَثَّهُ عَلَى الصَّلَاةِ وَرَغَّبَهُ فِي تَرْكِ التَّبْذِيرِ وَالْإِسْرَافِ، وَعَرَّفَهُ أَنَّ عَاقِبَتَهُ الْفَقْرُ، وَالِاحْتِيَاجُ إِلَى الْخَلْقِ إِلَى مَا يُشْبِهُ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْكَلَامِ، قَالَ الرَّازِيُّ: وَهَذَا الْوَجْهُ أَحْسَنُ مِنْ سَائِرِ الْوُجُوهِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْمَعْرُوفُ هُوَ مَا تَعْرِفُهُ النُّفُوسُ الْكَرِيمَةُ، وَتَأْلَفُهُ، وَيُقَابِلُهُ الْمُنْكَرُ وَهُوَ: مَا تُنْكِرُهُ وَتَمُجُّهُ. فَالْمَعْرُوفُ هُنَا: يَشْمَلُ تَطْيِيبَ الْقُلُوبِ بِإِفْهَامِ السَّفِيهِ أَنَّ الْمَالَ مَالُهُ لَا فَضْلَ لِأَحَدٍ فِي الْإِنْفَاقِ مِنْهُ عَلَيْهِ لِيَسْهُلَ عَلَيْهِ الْحَجْرُ، وَيَشْمَلُ النُّصْحَ، وَالْإِرْشَادَ، وَتَعْلِيمَ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْلَمَهُ، وَمَا يَعُدُّهُ لِلرُّشْدِ، فَإِنَّ السَّفَهَ كَثِيرًا مَا يَكُونُ عَارِضًا لِلشَّخْصِ لَا فِطْرِيًّا، فَإِذَا عُولِجَ بِالنُّصْحِ وَالتَّأْدِيبِ حَسُنَتْ حَالُهُ، فَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ الَّذِي أَمَرَ اللهُ أَوْلِيَاءَ السُّفَهَاءِ بِهِ زِيَادَةً عَلَى حِفْظِ أَمْوَالِهِمْ، وَتَثْمِيرِهَا، وَالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ مِنْهَا.
أَقُولُ: فَأَيْنَ مَكَانُ هَذِهِ الْوَصَايَا، وَالْأَوَامِرِ الْإِلَهِيَّةِ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ، وَالْأَوْصِيَاءِ الَّذِينَ نَعْرِفُهُمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ السُّفَهَاءِ، وَيَمُدُّونَهُمْ فِي سَفَهِهِمْ، وَيَحُولُونَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَسْبَابِ الرُّشْدِ لِيَبْقَوْا مُتَمَتِّعِينَ بِالتَّصَرُّفِ فِي أَمْوَالِهِمْ؟
{وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} بَيَّنَ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الشَّرْطَ أَوِ الصِّفَةَ الَّتِي يَجِبُ بِهَا إِيتَاءُ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ كَمَا أَمَرَ فِي آيَةِ: وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مِثَالُهُ: إِنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَمْرِ بِإِيتَاءِ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ كَانَ مُجْمَلًا، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ تَفْصِيلٌ لِكَيْفِيَّةِ الْإِيتَاءِ، وَوَقْتِهِ، وَمَا يُعْتَبَرُ فِيهِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ابْتِلَاءِ الْيَتِيمِ: كَيْفَ يَكُونُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُعْطَى شَيْئًا مِنَ الْمَالِ لِيَتَصَرَّفَ فِيهِ فَيُرَى تَصَرُّفُهُ كَيْفَ يَكُونُ؟ فَإِنْ أَحْسَنَ فِيهِ كَانَ رَاشِدًا، وَإِلَّا كَانَ سَفَهُهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْإِعْطَاءَ لَا يَجُوزُ إِلَّا بَعْدَ الِابْتِلَاءِ، وَإِينَاسِ الرُّشْدِ، فَمَنْ أَعْطَاهُ قَبْلَ ذَلِكَ يَكُونُ مُخَالِفًا لِلْأَمْرِ وَمُجَازِفًا بِالْمَالِ. وَالصَّوَابُ: أَنْ يُحْضِرَهُ الْوَلِيُّ الْمُعَامَلَاتِ الْمَالِيَّةَ، وَيُطْلِعَهُ عَلَى كَيْفِيَّةِ التَّصَرُّفِ، وَيَسْأَلَهُ عِنْدَ كُلِّ عَمَلٍ عَنْ رَأْيِهِ فِيهِ، فَإِذَا رَأَى أَجْوِبَتَهُ سَدِيدَةً، وَرَأْيَهُ صَالِحًا يَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ رَشُدَ.
وَاعْتُرِضَ هَذَا أَيْضًا بِأَنَّ الْقَوْلَ لَا يُغْنِي عَنِ الْفِعْلِ شَيْئًا، فَإِنَّ قَلِيلًا مِنَ النَّبَاهَةِ يَكْفِي لِإِحْسَانِ الْجَوَابِ إِنْ قِيلَ لَهُ مَا تَقُولُ فِي ثَمَنِ هَذَا؟ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَإِنَّنَا نَرَى كَثِيرًا مِنَ الَّذِينَ نُسَمِّيهِمْ أَذْكِيَاءَ وَمُتَعَلِّمِينَ يَتَكَلَّمُ أَحَدُهُمْ فِي الزِّرَاعَةِ عَنْ عِلْمٍ يَقُولُ: يَنْبَغِي كَذَا مِنَ السَّمَادِ وَكَذَا مِنَ السَّقْيِ وَالْعَذْقِ، فَإِذَا أُرْسِلَ إِلَى الْأَرْضِ، وَكُلِّفَ الْعَمَلَ يَنَامُ مُعْظَمَ النَّهَارِ، وَلَا يَعْمَلُ شَيْئًا، أَوْ يَعْمَلُ فَيُسِيءُ الْعَمَلَ، وَلَا يُحْسِنُهُ، بَلْ تَرَى مِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَكَلَّمُ فِي الْأَخْلَاقِ وَكَيْفِيَّةِ مُعَامَلَةِ النَّاسِ فَيُحْسِنُ الْقَوْلَ كَمَا يَنْبَغِي وَلَكِنَّهُ يُسِيءُ فِي الْمُعَامَلَةِ فَيَكُونُ عَمَلُهُ مُخَالِفًا لِقَوْلِهِ، فَقَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ الثَّانِي قَدْ غَفَلَ عَنِ الْقَاعِدَةِ الَّتِي اتَّفَقَ عَلَيْهَا الْعُقَلَاءُ وَهِيَ أَنَّ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالتَّجْرِبَةِ بَوْنًا شَاسِعًا، فَكَمَا رَأَيْنَا أُنَاسًا مِنَ الْمُحْسِنِينَ فِي الْكَلَامِ السُّفَهَاءِ فِي الْأَعْمَالِ الَّذِينَ إِذَا سَأَلْتَهُمْ عَنْ طُرُقِ الِاقْتِصَادِ فِي الْمُعَامَلَةِ، وَتَدْبِيرِ الثَّرْوَةِ أَجَابُوكَ أَحْسَنَ جَوَابٍ مَبْنِيٍّ عَلَى قَوَاعِدِ الْعِلْمِ الْحَدِيثِ الْمَبْنِيِّ عَلَى التَّجَارِبِ، وَإِنْعَامِ النَّظَرِ، ثُمَّ هُمْ يُسَفَّهُونَ فِي عَمَلِهِمْ وَيُبَذِّرُونَ الْأَمْوَالَ تَبْذِيرًا يُسَارِعُونَ فِيهِ إِلَى الْفَقْرِ، أَعْرِفُ مِنْ هَؤُلَاءِ رَجُلًا تَرَكَ لَهُ وَالِدُهُ ثَرْوَةً قُدِّرَتْ قِيمَتُهَا بِمِلْيُونِ جُنَيْهٍ (أَيْ بِأَلْفِ أَلْفِ جُنَيْهٍ) فَأَتْلَفَهَا بِإِسْرَافِهِ، وَهُوَ الْآنَ يَطْلُبُ إِعَانَةً مِنَ الْجَمْعِيَّةِ الْخَيْرِيَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ!!
قَالَ: فَالرَّأْيُ الْأَوَّلُ أَسَدُّ، وَأَصْوَبُ، وَمَا اعْتُرِضَ بِهِ عَلَيْهِ يُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ الْمَمْنُوعَ قَبْلَ الْعِلْمِ بِالرُّشْدِ هُوَ إِعْطَاءُ الْيَتِيمِ مَالَهُ كُلَّهُ لِيَسْتَقِلَّ بِالتَّصَرُّفِ فِيهِ، وَأَمَّا إِعْطَاؤُهُ طَائِفَةً مِنْهُ لِيَتَصَرَّفَ فِيهَا تَحْتَ مُرَاقَبَةِ الْوَلِيِّ ابْتِلَاءً وَاخْتِيَارًا لَهُ فَهُوَ غَيْرُ مَمْنُوعٍ بَلْ هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
قَالَ: وحَتَّى ابْتِدَائِيَّةٌ، أَيِ ابْتَلُوا الْيَتَامَى إِلَى ابْتِدَاءِ الْبُلُوغِ، وَكَوْنُهَا ابْتِدَائِيَّةً لَا يُنَافِي كَوْنَهَا لِلْغَايَةِ الَّتِي هِيَ مَعْنَاهَا الْأَصْلِيُّ الَّذِي لَا يُفَارِقُهَا، وَإِنَّمَا فَرَّقُوا بَيْنَ الَّتِي تَدْخُلُ عَلَى الْجُمْلَةِ الْكَامِلَةِ وَالَّتِي تَدْخُلُ عَلَى الْمُفْرَدِ فِي الْإِعْرَابِ، فَسَمَّوُا الْأُولَى الِابْتِدَائِيَّةَ وَهِيَ الَّتِي لَا تَجُرُّ الْمُفْرَدَ، وَسَمَّوُا الثَّانِيَةَ الْجَارَّةَ وَهِيَ الَّتِي تَجُرُّ الْمُفْرَدَ. وَالْغَايَةُ فِي الْأُولَى هِيَ مَفْهُومُ الْجُمْلَةِ الَّتِي بَعْدَهَا، أَيِ ابْتَلُوهُمْ إِلَى ابْتِدَاءِ الْحَدِّ الَّذِي يَبْلُغُونَ فِيهِ سِنَّ النِّكَاحِ، فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ بَعْدَ الْبُلُوغِ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ، وَإِلَّا فَاسْتَمِرُّوا عَلَى الِابْتِلَاءِ إِلَى أَنْ تَأْنَسُوا مِنْهُمُ الرُّشْدَ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُعْطَى مَالَهُ إِذَا بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَإِنْ لَمْ يَرْشُدْ، وَجُمْلَةُ فَإِنْ آنَسْتُمْ جَوَابُ حَتَّى إِذَا بَلَغُوا.